اقتراح لتسيير المرحلة الانتقالية قصد التأسيس لجمهورية جزائرية جديدة
د. عباس فريد أستاذ القانون، جامعة بومرداس
د. عباس عبد النور أستاذ العلوم، جامعة مينيسوتا، و.م.أ
تمر الجزائر اليوم بمرحلة حساسة في تاريخها، وذلك على المستويين الدستوري والسياسي، حيث أدت السياسات المتعاقبة، والمعتمدة إلى غاية اليوم من قبل نظام الحكم، إلى خلق أزمة مزدوجة؛
أزمة سياسيّة، سببها عدم فهم واستيعاب نظام الحكم، الذي تأسّس على الشرعية الثورية، للتحوّلات العميقة التي حدثت في المجتمع، لاسيّما بعد العشريّة السوداء.
فلم يعد نظام الحكم يستجيب لتطلّعات وطموحات الشعب الجزائري، لاسيّما الأجيال الجديدة التي تطالب اليوم بتغيير هذا النظام. فهذه الأجيال، وإن كانت تعتزّ وتفتخر بتاريخها، إلا أنها تتوق اليوم إلى تقرير مصيرها بنفسها وإجراء إصلاحات حقيقية عميقة تُحترم فيها الحرّيات وتكرّس العدالة الاجتماعية والمساواة والكرامة، وإلى بناء مؤسّسات أساسها مشاركة الجميع في تسيير الشؤون العمومية.
أما الأزمة الثانية فهي دستورية، مرتبطة بإلغاء السّلطة الحاكمة للانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة ليوم 18 أفريل 2019، وهذا الخرق الدستوري سيؤدي حتما لإحداث شغور في منصب رئاسة الجمهورية بعد هذا التاريخ، وتصبح أعلى مؤسّسة دستورية في الدولة فاقدة للمشروعية.
إن الدستور فوق الجميع واحترامه لفظا وروحا أساس دولة القانون، والمساس به لأي ظرف كان، ومهما كانت نقائصه، دون الرجوع إلى الإرادة الشعبية أو عبر القنوات القانونية المقرّرة في أحكامه، يمس بمشروعية المؤسّسات وممارسة السلطات، كما يشكل سلوكا سياسيا محفوفا بالمخاطر ويكرس انطلاقة خاطئة لبناء جمهوريّة ديمقراطيّة حقيقية.
إن هذه الهبّة الشعبيّة التي جسّدتها المسيرات السلمية المتتابعة، والتي فاجأت الطبقة السياسيّة برمّتها داخليا وأبهرت العالم بحضاريّتها، لهي نقطة تحول فاصلة وفرصة تاريخيّة لتثبيت وحدة الشعب الجزائري وعدم إهدار طاقته الإيجابية، وذلك من خلال الأخذ بيده لكي يكون صاحب المعجزات في الجمهوريّة الجزائريّة الجديدة. على الشعب الجزائري، في إطار استمرار نضاله من أجل الحريّة والديمقراطيّة، البقاء يقضا ومتفطنا لكل من يريد تحريف مساره أو المساس بوحدته وتضامنه، أو يُضنيه عن سلميّة مطالبه المشروعة.
ويقع على مؤسّسة الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني، في إطار مهامه الدستوريّة، واجب حماية الإرادة الشعبيّة، باعتبارها سبب وجود الدولة ومشروعيتها، من المخاطر التي يمكن أن تترصد له داخليا وخارجيا، وتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ روح التضامن معه.
كما على السلطة الحاكمة أن تدرك أن استقرار مؤسّسات الدولة مرهون بالفهم العميق لرسالة الشعب الجزائري وصرخته وبالاستجابة الصادقة لمطالبه المشروعة، وعلى المعارضة السياسيّة الكف عن التحجّج بممارسات السلطة قصد تبرير فشلها، وتترفع عن مصالحها الحزبيّة الضيّقة وأطماعها السياسيّة الآنية، وأن تتوحد لمواكبة هذا التحول والانسجام معه، وتكون في حجم تطلّعات ومطالب هذا الشعب واستعادة ثقته التي أفقدتها ممارستها منذ عهد التعددية.
إن التأسيس لجمهوريّة جزائريّة جديدة مرهون بنجاح المرحلة الانتقاليّة، والسؤال المهم في خريطة الطريق لهذه المرحلة هو؛ كيف يمكن أن نغيّر النظام الحالي، مثلما يطالب به الشعب الجزائري، مع الحفاظ على الشرعيّة الدستوريّة واستقرار المؤسّسات؟ ومن سيتكفل بتسيير هذه المرحلة التي ستوصلنا إلى تغيير النظام؟. أولا: لنجاح أي مبادرة سياسيّة لابد أن تتحصل على ثقة الشعب، وهذه الثقة لا تكتسب بالأقوال والتصريحات، لاسيّما إن جاءت من اللّذين كانوا سببا في الأزمة. فالشعب لم يعد يثق في صدق مسعى السلطة وحسن نواياها في تغيير النظام، أو حتى بالتوافق بين السلطة والمعارضة لفقدان هذه الأخيرة لمصداقيتها اتجاه الشعب، فهو يراها مجرد مناورات لربح الوقت قصد تكيّف نفس النظام مع المستجدّات.
فاسترجاع هذه الثقة مرتبط بتقديم ضمانات كافية لطمأنة الشعب الجزائري بصدق المسعى وحسن النوايا في تغيير النظام من جهة، وحسن مخرجات المرحلة الانتقالية ونتائجها من جهة أخرى.
إن أولى خطوات استرجاع هذه الثقة هو التعهد بالرجوع إلى الشعب في جميع مراحل العملية، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وثانيها اختيار الأشخاص النزهاء والمخلصين لهذا الوطن لإدارة المرحلة الانتقالية، وثالثها اعتماد إجراءات واضحة من شأنها ضمان سيادة ونزاهة وفعالية مؤسسات المرحلة الانتقالية. ثانيا: بعيدا عن سياسة "تدوير الأزمات" والبحث عن الحلول الهشة، وقصد الحفاظ على وحدة الشعب وضمان الاستقرار المستدام للدولة وتجنب الصراعات الفئوية المحتملة، والتي ستشوش على أهداف الحراك الشعبي وتحريف مساره وإطالة الأزمة التي ستضيّع وقتا ثمينا للدولة الجزائريّة، نقترح خريطة الطريق التالية للمرحلة الانتقالية التي ينبغي ألا تتجاوز السنتيّن:
1ـ التمسك بتأجيل الانتخابات الرئاسية، مع العلم أن مثل هكذا قرار سيؤدي بأعلى مؤسّسات الدولة أن تكون خارج الشرعية الدستوريّة، حيث سنكون أمام شغور لمنصب رئيس الجمهورية.
غير أنه بالمقابل الاستمرار في هذه الانتخابات يمكن أن ترجعنا إلى نقطة الصفر بحكم عدم توفرها على ضمانات الشفافية والنزاهة والمصداقية، بسبب تجذّر رجالات النظام الحاكم وتحكمهم وتأثيرهم القوي في مؤسّسات الدولة في إطار غياب معارضة قوية، وكذا بسبب الظروف الاستثنائية التي تمت فيها الترشيحات لرئاسة الجمهورية الملغاة والتي كانت مقررة ليوم 18 أفريل 2019.
وننبّه هنا إلى أن مطالبة البعض بعدم تأجيل الانتخابات في هذه الظروف يمكن أن يصُبّ في مصلحة النظام ــ رغم أنه الطالب بالتأجيل ــ أكثر منه في مصلحة الشعب وأهداف التغيير التي يصبو إليها.
لذلك لتفادي الوضعية غير الدستوريّة من جهة، وبسبب عدم جدوى الانتخابات في الظروف الحالية من جهة أخرى، ينبغي الرجوع إلى الشعب باعتباره مصدر كل سلطة والذي يمارس سيادته عن طريق الاستفتاء وبواسطة ممثليه المنتخبين، والذي له الحرية في اختيار مؤسّساته الانتقالية.
فيجب أن تكون هذه المؤسّسات الانتقالية تجسيدا للإرادة الشعبيّة حتى تكون لها الشرعية الكافية لسد الوضعية غير الدستورية التي خلقها تأجيل الانتخابات، وذلك بالاستناد لنص المواد 7، 8، 9 من الدستور الساري المفعول.
2ــ ينبغي للسلطة الحاكمة، كمرحلة أولية، أن تعمل على التهدئة، من خلال تلبية المطلب الشعبي القاضي باستبعاد رجالات النظام الذين تسببوا في الأزمة من تسيير المرحلة الانتقالية، كضمانة عن صدق مسعى التغيير.
ينتج عن ذلك حل البرلمان بغرفتيه وكذا المجلس الدستوري الحالي لفقدان شرعيتهما والجدوى من استمرارهما خلال المرحلة الانتقالية التي تشرف عليها مؤسّسات انتقالية.
والاستبعاد هنا لا يعني الإقصاء، حيث للأحزاب السياسيّة التي شاركت في الحكم أو دعمت السلطة الحاكمة أن تشارك في النقاش العام كغيرها من أحزاب المعارضة أو هيئات المجتمع المدني، ما دام كلهم يحترمون قواعد المرحلة الانتقالية التي تعدّها شخصيات تحظى بثقة الشعب.
3ــ تشكيل حكومة انتقالية ترأسها شخصيتين وطنيتين مؤهلتين ومقبولتين من قبل الشعب وتحظيان بثقته. فعلى الشعب، بعد تلبية المطلب الأول المذكور أعلاه، أن يسعى بكل ديمقراطية إلى تعيين على الأقل لشخصيتين وطنيتين اللتين ستقومان بالإشراف على هذه الحكومة الانتقالية.
إن اختيار الشخصيتين الأوليتين يكون على أساس معايير تأخذ بعين الاعتبار عنصرين: الكفاءة والمصداقية. من المستحسن أن تكون الشخصية الأولى رجل قانون متمرس ويعرف جيدا الواقع الجزائري، أما الشخصية الثانية فمن الأفضل أن تكون رجل سياسي ودبلوماسي محنك، وكلاهما لا بد أن يتمتعا بثقة الشعب، بالإضافة إلى تمتع الثاني بمصداقية على المستوى الخارجي، كل ذلك قصد طمأنة المواطنين داخليا والشركاء الأجانب خارجيا.
تتكفل الشخصيتان بإجراء مشاورات لتشكيل حكومة كفاءات انتقالية هدفها تسيير المرحلة الانتقالية، ويتم اختيار أعضائها من شخصيات وطنية مشهود لها بالنزاهة والكفاءة والمصداقية، والتي تحظى بثقة الشعب. تتكفل الحكومة الانتقالية بالمهام الآتية:
ــ تسيير البلاد في المرحلة الانتقالية وذلك من الناحية الهيكلية والوظيفية، مع التأكيد على ضرورة الاستمرار في احترام التعهدات الخارجية للدولة الجزائرية.
ـــ تشكيل لجنة انتقالية للانتخابات قصد الإشراف على انتخاب المجلس التأسيسي في ظرف سنة كأقصى تقدير، ويتم حلها بانتهاء مهمتها هذه. ( يقتضي إبعاد الإدارة التقليدية المستمرة في المرحلة الانتقالية بمختلف مستوياتها من التدخل في العملية الانتخابية لإعطائها أكثر مصداقية، واكتفائها بتقديم المساعدات اللوجستية في إطار الحكومة الانتقالية.) 4ـ انتخاب مجلس تأسيسي سيّد من خلال الاقتراع العام والسري للشعب الجزائري: إن الغرض من هذا الاقتراع هو إضفاء الشرعية اللازمة على المجلس للاضطلاع بمهامه في المرحلة الانتقالية، باعتباره ممثلا للسّيادة الشعبيّة.
بغرض تفادي إطالة المرحلة الانتقالية بحكم التناقضات والمصالح التي تطبع بعض القوى السياسية، وقصد ضمان نجاح مهمة المجلس، ينبغي أن يتشكل من شخصيات وطنية مشهود لها بالنزاهة والكفاءة والموضوعية والمصداقية. يمكن أن تكون الانطلاقة لاقتراح هؤلاء الأعضاء بفتح نقاش على مستوى كل القطاعات قصد انتخاب عدد من الشخصيات في كل قطاع ( تعليم عالي، التربية، العدالة، ....).
ينتخب أعضاء المجلس رئيسا، يعد بمثابة رئيس دولة بالنيابة، ولا يحق له الترشح لرئاسة الجمهورية التي تتوج المرحلة الانتقالية، وتنتهي مهامه بانتخاب رئيس الجمهورية.
وعلى هذا المجلس ــ فور تشكيله ــ فتح نقاش عام دون إقصاء، وذلك مع جميع الأطراف والأطياف مهما كانت انتماءاتهم وإيديولوجياتهم، وسواء كانت أحزاب معتمدة أو غير معتمدة، نقابات وجمعيات وشخصيات وطنية وحتى مواطنون من خلال فتح النقاش على مستوى مختلف القطاعات لتقديم مقترحات، وعلى مستوى البلديات من خلال فتح دفتر للمقترحات.
يحل المجلس التأسيسي محل البرلمان بغرفتيه. تتمحور مهام هذا المجلس التأسيسي السيّد أساسا فيما يلي: ــ وضع دستور الجمهورية الجزائرية الجديدة وأسس الدولة الجزائرية الحديثة الذي ستحترمه جميع الأطياف السياسية مهما كان مشروعها وإيديولوجياتها وتوجهاتها، ويتم عرض الدستور الجديد على الاستفتاء الشعبي. ــ تشكيل سلطة مستقلة للانتخابات وانتخاب أعضائها الأولون، مهمتها تحضير وتنظيم ومراقبة والإعلان عن نتائج الانتخابات في مختلف مستوياتها. وأول انتخاب تشرف عليه هو الاستفتاء على الدستور الجديد، والإشراف على الانتخابات الرئاسية.
إن الرهان الحقيقي وأساس استقرار المؤسّسات المنتخبة هو في سيادة هذه السلطة المستقلة للانتخابات، باعتبارها الضامنة للإرادة الشعبية، لذلك فإن تحديد نظامها (عهدتها وتشكيلتها وطريقة سيرها وتعيين أعضائها ومواصفاتهم) يكون من قبل الحكومة الانتقالية ويصادق عليه المجلس التأسيسي، ويخضع الأعضاء المقترحين للسلطة المستقلة للانتخابات للموافقة من قبل المجلس التأسيسي. ــ انتخاب أعضاء المجلس الدستوري للمرحلة الانتقالية، والذي يحل محل المجلس الحالي.
في الأخير ننبه إلى أن الظرف يتطلب الاستعجال في التوافق على خريطة الطريق للمرحلة الانتقالية، وكل تماطل لن يكون أبدا في مصلحة الوطن، كما أن نجاح هذه المرحلة وتتويجها بتغيير حقيقي سيقوي اللّحمة الوطنية ويضع الجزائر والشعب الجزائري في مصف الدول والشعوب الجديرة بالاحترام، وسيجعل المواطن الجزائري يتفرغ لبناء الوطن وتنميته في مختلف المجالات، أما إذا فشلنا في تسيير هذه المرحلة واغتنام هذه الفرصة التاريخية فإننا سنرهن مستقبل الأجيال اللاحقة، بحكم أن التاريخ سيعيد نفسه بتكرار الأزمات في كل عشرية من الزمن، لأننا نكون قد نقلنا إليهم إخفاقنا.