د. عباس فريد أستاذ محاضر، كلية الحقوق، جامعة بومرداس
تمر الجزائر اليوم بأزمة سياسيّة ودستوريّة، مرتبطة بخروج الشعب الجزائري في مسيرات سلمية للمطالبة بتغيير النظام، وتقرير السلطة الحاكمة بإلغاء للانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة ليوم 18 أفريل 2019، وهذا الخرق الدستوري سيؤدي حتما لإحداث شغور في رئاسة الجمهورية، وتصبح أعلى مؤسّسة دستورية في الدولة فاقدة للمشروعية، إذا لم يتم إيجاد حلا لها قبل يوم 28 أفريل 2019، تاريخ انتهاء عهدة رئيس الجمهورية الحالي.
ولم تتمكن السلطة الحاكمة والطبقة السياسيّة لغاية اليوم من إيجاد الحلول المناسبة للأزمة السياسيّة ومخرجا ملائما للأزمة الدستوريّة، وحسب تصريح الفريق أحمد ڤايد صالح، نائب وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، في إطار زيارة عمل وتفتيش إلى قطاعات ووحدات الناحية العسكرية الثالثة ببشار، بتاريخ 18/ 03/ 2019، " فإن لكل مشكلة حل، بل، حلول، فالمشاكل مهما تعقدت لن تبقى من دون حلول مناسبة، بل، وملائمة. " .( المصدر: وكالة الأنباء الجزائرية، يوم الاثنين 18 مارس 2019).
للإشارة فإنه في إطار البحث عن الحلول السياسية للأزمة قمنا بمعية الدكتور "عبد النور عباس" بنشر مساهمة عنوانها "خريطة طريق للشعب الجزائري"، التي يمكن الإطلاع عليها على موقع؛ www.algerielibre.org. الحلول المقترحة في هذه الخريطة تهدف إلى محاولة بناء أسس متينة لتغيير النظام بشكل فعلي ومستدام، حتى ولو كانت بعض المقترحات يمكن أن تخلق وضعيات دستوريّة معقدة.
إذا كانت دولة القانون تتطلب في كل حل سياسي أن يتم في إطار الدستور، فإن هذا الأخير يمكن أن يصطدم بواقع تفرضه الممارسات السياسيّة، حيث يصبح عاجزا عن إيجاد الحلول المناسبة، أو يتم توظيفه بحسب ما تتطلبه موازين القوى السياسية.
وفي هذا المنحى اتجه نائب الوزير الأول، "رمطان لعمامرة"، بقوله أن “القانون لا يجب أن يكون عائقا لتجاوز العقبات”. في تبرير له لتأجيل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للانتخابات الرئاسية. مؤكدا أن تأجيل الانتخابات الرئاسية وبقاء بوتفليقة، جاءت بسبب الضرورة التي يفرضها الوضع.( المصدر :TSA عربي بتاريخ 13 مارس 2019).
وفي نفس التوجه سار "حسين خلدون"، المكلف بالإعلام لحزب جبهة التحرير الوطني، حيث صرح بأن الحلول السياسيّة تتجاوز القانون في الأزمات، وعندما نريد اللجوء إلى الحلول السياسية علينا أن نتجاهل القانون لأن الأخير يضعه السياسيّون في وضع عادي.( المصدر :TSA عربي بتاريخ 17 مارس 2019).
في هذا السياق نتساءل، إلى أيّ مدى يمكن أن تذهب السلطة الحاكمة للقبول بالمطالب الشعبية والخروج من الأزمة السياسيّة الحالية في إطار إحترام الدستور، وهل يمكن لهذه الأزمة أن تبرّر تجاوز السلطة لأسمى القوانين، ألا وهو الدستور؟. الإشكال في بلدنا الجزائر أن خرق الدستور لا يكون فقط في الأزمات، إنما أصبح عرفا فرض نفسه في هرم تدرج القوانين.
إن القاعدة القانونية توضع بالذات لتفادي العقبات، ولا يمكن أن تكون أبدا عائقا أمام تجاوزها، مهما كانت نقائصها، لأنه تخضع لآليات قانونية للتعديل، أو التتميم، أو الإلغاء، لكن لا ينبغي للواقع أن يحل محل القاعدة القانونية، وإلا وقعنا في الفوضى.
إن العقبات التي يؤسّس عليها البعض لتجاوز الدستور لم تكن لتحدث لو لم يتم مخالفة الدستور ذاته، فالخرق كان سابقا لوجود العقبات، بل هي نتاج ذلك الخرق، فلو لم تؤجل الانتخابات لما حدثت هناك عقبات ولما كنا أمام وضعية غير دستورية، فلا ينبغي السعي إراديا إلى خلق وضعية استثنائية وظروف غير عادية قصد تبرير الخروج عن القانون بطريقة غير مشروعة.
في هذا السياق، ولتفادي تراكم الأزمة السياسيّة مع الأزمة الدستوريّة، رغم ارتباطهما وتأثيراتهما المتبادلتين، سنحاول في هذه المساهمة التركيز على الجانب القانوني أو الدستوري المحض، من خلال مناقشة مختلف المخارج الدستوريّة الممكنة للأزمة السياسيّة، على ضوء الدستور الجزائري لسنة 2016، والتي يمكن إجمالها في خمسة فرضيات، منها ما يتوافق مع المطالب الشعبية ومنها ما لا يخدم أهداف الحراك الشعبي، ومنها ما يمكن تجسيده نظريا وقانونا لكنه مستبعد سياسيا، ونجملها فيما يلي:
1- استقالة رئيس الجمهورية قبل انتهاء عهدته
2- تقرير الحالة الاستثنائية
3- انتخاب مجلس رئاسي انتقالي سيّد
4- تنظيم الانتخابات في أجلها
5- دور مؤسّسة الجيش في حماية السيّادة الشعبيّة ؟
أولا: استقالة رئيس الجمهورية قبل انتهاء عهدته يوم 28/4/2019: ولهذه الوضعية حالتين: أــ الحالة الأولى: إعلان الشغور بالاستقالة وجوبا:
تطبيقا لنص المادة 102 من الدستور، إذا استحال على رئيس الجمهوريّة أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدّستوريّ وجوبا، وبعد أن يتثبّت من حقيقة هذا المانع بكلّ الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التّصريح بثبوت المانع.
يُعلِن البرلمان، المنعقد بغرفتيه المجتمعتين معا، ثبوت المانع لرئيس الجمهوريّة بأغلبيّة ثلثي (2/3) أعضائه، ويكلّف بتولّي رئاسة الدّولة بالنّيابة مدّة أقصاها خمسة وأربعون (45) يوما رئيس مجلس الأمّة الّذي يمارس صلاحيّاته مع مراعاة أحكام المادّة 104 من الدّستور.
وفي حالة استمرار المانع بعد انقضاء خمسة وأربعين (45) يوما، يُعلَن الشّغور بالاستقالة وجوبا حسب الإجراء المنصوص عليه أعلاه .
ويكون لرئيس الدولة الذي هو رئيس مجلس الأمة تنظيم الانتخابات من جديد في ظرف 90 يوما.
إن مثل هذا الحل غير وارد عمليا نظرا للشروط والإجراءات التي تستلزمها هذه الحالة، حيث يتطلب ما يلي:
1ــ انتظار استمرار المانع لرئيس الجمهورية مدة 45 يوما قبل إعلان المجلس الدستوري الشغور بالاستقالة وجوبا، والوضع الحالي لا يسمح بذلك باعتبار أن عهدة رئيس الجمهورية بقي لها أقل من 45 يوما. 2 ــ يُستبعد، من الناحية السياسيّة، اجتماع البرلمان لإثبات المانع لرئيس الجمهورية، بعد أن كانت الأغلبية البرلمانية قد رشحته لعهدة خامسة ونفت وجود مانع صحي للرئيس. ب ــ الحالة الثانية: حالة الاستقالة الإرادية لرئيس الجمهورية أو وفاته طبقا لنص الفقرات 4 ، 5 ، 6، 7 من المادة 102 من الدستور، في حالة استقالة رئيس الجمهوريّة أو وفاته، يجتمع المجلس الدّستوريّ وجوبا ويُثبِت الشّغور النّهائيّ لرئاسة الجمهوريّة. وتُبلّغ فورا شهادة التّصريح بالشّغور النّهائيّ إلى البرلمان الّذي يجتمع وجوبا. يتولّى رئيس مجلس الأمّة، أو رئيس المجلس الدستوري ــ في حالة شغور منصب رئيس مجلس الأمة ــ مهام رئيس الدّولة لمدّة أقصاها تسعون (90) يوما، تنظّم خلالها انتخابات رئاسيّة. ولا يَحِقّ لرئيس الدّولة المعيّن بهذه الطّريقة أن يترشّح لرئاسة الجمهوريّة. إن هذه الحالة ممكن تجسيدها واقعيا وتجنب الجزائر فترة فراغ مؤسسّة الرئاسة، حيث يتولى رئيس مجلس الأمة رئاسة الدولة لمدة أقصاها 90 يوما ينظم خلالها انتخابات رئاسية من جديد، بعد تلك التي ألغاها رئيس الجمهورية المستقيل.
غير أنه يمكن كفرضية ثانية أن يقرر المجلس الدستوري، بناء على قواعد الإخطار المنصوص عليها في المادة 187 من الدستور، التقرير بعدم دستورية المرسوم الرئاسي الذي سحب بموجبه رئيس الجمهورية المرسوم المتضمن استدعاء الهيئة الناخبة لانتخاب رئيس الجمهورية، مع ما ينتج عن هكذا قرار من مساس بمصداقية المجلس، بحكم قبوله للمرسوم في المرحلة الأولى.
نتيجة لذلك سيقوم المجلس الدستوري بتثبيت إجراء الانتخابات الرئاسية في أجلها، أي يوم 18 أفريل 2019، وبالفصل في ملفات الترشيحات، مع رفض ملف المترشح عبد العزيز بوتفليقة لسبب صحي، أو قيامه هو شخصيا بسحبه.
إن اللجوء إلى مثل هذه الحلول يعد بمثابة تراجع من رئيس الجمهورية عن خريطة الطريق التي قررها سابقا، وإرجاع الأوضاع إلى حالتها العادية والدستورية، ولا يمكن لرئيس الدولة الجديد، طبقا لنص المادة 104 من الدستور، استمرار العمل بهذه الخريطة، حيث لا يمكن أن تُقال أو تعدّل الحكومة القائمة إبّان حصول المانع لرئيس الجمهوريّة، أو وفاته، أو استقالته، حتّى يَشرَع رئيس الجمهوريّة الجديد في ممارسة مهامه.
تنحصر مهمة رئيس الدولة المعيّن بهذه الطريقة في تنظيم الانتخابات الرئاسية خلال مدة 90 يوم، (لا يمكن له دستوريا تعيين حكومة جديدة أو التشريع بأوامر ولا حل المجلس الشعبي الوطني أو تعديل الدستور أو تقرير مرحلة انتقالية، أو اللجوء إلى الاستفتاء،...).
ثانيا: تقرير الحالة الاستثنائية: حسب المادة 107 من دستور 2016 يقرّر رئيس الجمهوريّة الحالة الاستثنائيّة إذا كانت البلاد مهدّدة بخطر داهم يوشك أن يصيب مؤسّساتها الدّستوريّة أو استقلالها أو سلامة ترابها. ولا يتّخذ مثل هذا الإجراء إلاّ بعد استشارة رئيس مجلس الأمة، ورئيس المجلس الشعبي الوطني، ورئيس المجلس الدّستوريّ، والاستماع إلى المجلس الأعلى للأمن ومجلس الوزراء.
تخوّل الحالة الاستثنائيّة رئيس الجمهوريّة أن يتّخذ الإجراءات الاستثنائيّة الّتي تستوجبها المحافظة على استقلال الأمّة والمؤسّسات الدّستوريّة في الجمهوريّة، ويجتمع البرلمان وجوبا.
يمكن لرئيس الجمهورية اللجوء إلى هذا الخيار إذا أراد الاستمرار في الحكم وتجسيد خريطة الطريق التي قررها، غير أنه من الصعب عليه أن يبرر الحالة الاستثنائية لعدم وجود أي خطر داهم يوشك أن يصيب المؤسّسات الدستوريّة للبلاد أو استقلالها أو سلامة ترابها.
والمسيرات التي يقوم بها الشعب الجزائري يوميا وخلال عطلة الأسبوع لا تشكل إطلاقا خطرا داهما نظرا لسلميتها.
ثالثا: انتخاب مجلس رئاسي انتقالي سيّدعن طريق الاقتراع العام إذا أراد رئيس الجمهورية تجسيد مشروعه في تغيير النظام مثلما أكده في رسائله، وفي نفس الوقت البقاء في إطار المشروعية الدستورية، فما عليه إلا اللجوء إلى الشعب واستفتائه للحصول على تفويضه لتمديد عهدته الرئاسية.
غير أن ذلك مستبعد في إطار الرفض الشعبي الصريح لاستمراره في الحكم.
فبدلا من ذلك يمكن لرئيس الجمهورية أن يستفتي الشعب حول المؤسسة الانتقالية التي ستتولى الإشراف على المرحلة الانتقالية، وذلك بالاستناد لنص المادتين7 و 8 من الدستور والتي تقرر مجموعة من المبادئ هي:
ـ الشّعب مصدر كلّ سلطة والسّيادة الوطنيّة ملك للشّعب وحده.
ـالسّلطة التّأسيسيّة ملك للشّعب ويمارس سيادته بواسطة المؤسّسات الدّستوريّة الّتي يختارها. ـ يمارس الشّعب هذه السّيادة أيضا عن طريق الاستفتاء وبواسطة ممثّليه المنتخَبين. ـ لرئيس الجمهوريّة أن يلتجئ إلى إرادة الشّعب مباشرة.
إن الغرض من هذا الاستفتاء هو إضفاء الشرعية اللازمة على المجلس للاضطلاع بمهامه في المرحلة الانتقالية، باعتباره ممثلا للسّيادة الشعبيّة. غير أن المشروعية الدستورية تتطلب أن يلجأ رئيس الجمهورية لهذه الطريقة قبل انتهاء عهدته الرئاسية، أي قبل 28 أفريل 2019، نظرا لإلغاء الانتخابات الرئاسية المقررة ليوم 18 أفريل، و حتى لا يكون هناك فراغ دستوري على مستوى هرم السلطة.
كما أن نجاح أي مبادرة سياسيّة مرهون بقبولها من طرف الشعب.
وكلا الشرطين يمكن تحقيقهما إذا توفرت الإرادة السياسيّة لدى جميع الأطراف والأطياف، وتم تغليب المصلحة العليا للبلاد على المصالح الشخصية، فلنجاح المرحلة الانتقالية لا بد ألا تكون مرهونة بشخص معيّن أو بفئة معينّة.
غير أن المطّلع على طبيعة تركيبة الأطياف السياسيّة الجزائرية وتشتتها وتناقضاتها يدرك مدى صعوبة تشكيل هذا المجلس في مدة شهر واحد.
لذلك ينبغي أن يتشكل هذا المجلس من عدد محدود من الشخصيات الوطنية ( خمس أو سبع شخصيات على الأكثر) وتتمتع بنزاهة ومصداقية لدى الشعب، ويعرض قائمة أعضاء المجلس للاقتراع العام قصد إعطائها الشرعية الشعبية بعد انتهاء عهدة رئيس الجمهورية، حيث يتحصل المجلس الانتقالي على تفويض من الشعب لإدارة المرحلة الانتقالية، ويُنتخب رئيس المجلس من بين الأعضاء والذي يتولى مهام رئيس الدولة بالنيابة للفترة الانتقالية، ويتعهد بعدم ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة.
رابعا: تنظيم الانتخابات في أجلها: يمكن لرئيس الجمهورية، من الناحية القانونية، أن يقرر الاستمرار في تنظيم الانتخابات الرئاسية في أجلها المحدد ب 18 أفريل 2019، وسحب ترشحه، نزولا عند رغبة المتظاهرين، غير أنه وإن كانت له كل الصلاحيات الدستورية والقانونية بإصدار مرسوم رئاسي يلغي المرسوم السابق، إلا أن هذا الإجراء مستبعد سياسيا.
بدلا من ذلك يمكن للمجلس الدستوري أن يقرر عدم دستورية المرسوم الرئاسي الملغي لانتخابات 18 أفريل، وبالتالي الاستمرار في تنظيم الانتخابات، كما له أن يقرر رفض ملف المترشح عبد العزيز بوتفليقة، في حالة عدم سحب ترشحه.
مع الإشارة هنا أن الآجال المقررة في قانون الانتخابات لاسيما في المادة 141 غير قابلة للتطبيق. (نص المادة 141 من قانون الانتخابات يعطي للمجلس الدستوري مهلة 10 أيام ابتداء من تاريخ إيداع التصريح بالترشح للفصل في صحة الترشيحات).
بالتالي الفرضية الأكثر واقعية، ضمن هذا الحل الرابع، هي تقرير المجلس الدستوري بعدم دستورية المرسوم الرئاسي الملغي لانتخابات 18 أفريل، وقيام المترشح عبد العزيز بوتفليقة بسحب ترشحه.
وهذا الحل سينسف كذلك خريطة الطريق التي قررها لتغيير النظام، كما تؤجل المطلب الشعبي بتغيير النظام.
خامسا: دور مؤسّسة الجيش في حماية السيّادة الشعبيّة؟ طبقا للدستور الجزائري فإنّ الجيش الوطني الشعبيّ سليل جيش التحرير الوطني يتولى مهامه الدستوريّة المرتبطة بالحفاظ على البلاد من كل خطر أجنبيّ وحماية المواطنين والمؤسّسات والممتلكات من الإرهاب، والحفاظ على الاستقلال الوطني، والدفاع عن السيّادة الوطنيّة، ووحدة البلاد وحرمتها الترابية، وحماية مجالها البري والجوي والبحري ( المادة 28 من دستور 2016).
خارج هذه المهام الدستوريّة يُطرح التساؤل عن دور مؤسّسة الجيش في حماية الجمهوريّة والإرادة الشعبيّة من كل اغتصاب من طرف السلطة الحاكمة، لاسيما إن كانت المؤسّسات الدستوريّة لم تؤدي دورها الموكول لها دستوريا، وما هو الأساس الدستوري الذي يمكن أن تستند إليه للتدخل؟. تُطرح هذه الفرضية، في ضل الأزمة الجزائرية، في حالة بقاء رئيس الجمهورية في منصبه إلى غاية انتهاء عهدته دون أن يعمد إلى حل من الحلول الدستوريّة المذكورة أعلاه، حيث نكون في هذه الحالة أمام فرضيتيّن:
الفرضية الأولى: التمديد الفعلي لعهدة الرئيس خارج الأطر الدستوريّة، حيث من الناحية الدستوريّة تنتهي عهدة رئيس الجمهورية يوم 28 أفريل 2019 ( اكتمال خمس سنوات، طبقا لنص المادة 88 من الدستور)، فيصبح بذلك عبد العزيز بوتفليقة رئيسا غير شرعي، بل يعد ذلك بمثابة اغتصاب للسلطة، ولا يمكن له أن يجسد الدولة داخل البلاد وخارجها، أو أن يضطلع بالسلطات والصلاحيات التي يخوله له الدستور، لاسيّما في المادتين 91 و92 من الدستور. نتيجة لذلك فهو يفقد صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولا يمكن أن يتولى مسؤولية الدفاع الوطني، أو أن يقرّر ويوجه السياسة الخارجية للأمة، أو أن يوقع المراسيم الرئاسيّة، أو يُصدر القوانين، أو أن يستفتي الشعب حول القضايا التي تهم الأمة، فهو بذلك لا يمكن له دستوريا أن يصدر مرسوما لاستدعاء الهيئة الناخبة للاستفتاء حول الدستور الذي تعده الندوة الوطنية المقترحة في خريطة الطريق التي قررها، أو تنظيم الانتخابات الرئاسية التي تُتوّج المرحلة الانتقالية.
لا يُسمح لرئيس الجمهورية، من الناحية الدستوريّة، تمديد عهدته إلا في حالتين هما: حالة الحرب، مثلما تنص عليه المادة 110 من الدستور، وحلة وفاة أو حدوث مانع شرعي لأحد المترشحين في الدور الثاني للانتخابات، طبقا لنص المادة 103 من الدستور.
أما إذا تعلق الأمر بالحالة الاستثنائية، فإن نص المادة 107 لم ينص صراحة على إمكانية تمديد عهدة رئيس الجمهورية المنتهية ولايته إلى غاية نهاية المرحلة الاستثنائية، مثلما نص على حالة الحرب.
غير أنه قياسا على حالة الحرب، إذا كانت البلاد مهددة بخطر داهم يوشك أن يصيب مؤسساتها الدستورية، والذي ينتج عنه استحالة إجراء الانتخابات الرئاسية في أجلها، فإن لرئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات الاستثنائية التي تستوجبها المحافظة على المؤسسات الدستورية، ومنها تأجيل الانتخابات الرئاسية إلى غاية انتهاء الحالة الاستثنائية، وهو تمديد ضمني لعهدته.
غير أن هذا الاحتمال، كما ذكرنا، غير وارد حاليا ما دامت المظاهرات والمسيرات تتم بشكل سلمي. وعلى المجلس الدستوريّ تحمل مسؤولياته الدستوريّة، باعتباره الساهر على احترام الدستور، وذلك من خلال تفعيل نص المادة 102 من الدستور، لاثبات الشغور النهائي لرئاسة الجمهورية.
الفرضية الثانية: انسحاب عبد العزيز بوتفليقة بعد انتهاء عهدته، أي يوم 28 أفريل 2019، دون أن يعمد إلى الحلول الدستوريّة السابقة.
في هذه الحالة نكون أمام فراغ مؤسّساتي، من خلال شغور منصب رئاسة الجمهورية، وهنا يتحمل رئيس الجمهورية المنتهية عهدته المسؤوليّة الكاملة على ما قد ينجر عن هذا الفراغ من مخاطر على الدولة الجزائرية.
أما من الناحية الدستوريّة فإن هذا الانسحاب يعد بمثابة استقالة تطبق بشأنها المادة 102 الفقرات 4، 5، 6، 7 من الدستور، حيث يجتمع المجلس الدستوري وجوبا ويُثبِت الشّغور النّهائيّ لرئاسة الجمهوريّة. وتُبلّغ فورا شهادة التّصريح بالشّغور النّهائيّ إلى البرلمان الّذي يجتمع وجوبا. يتولّى رئيس مجلس الأمّة مهام رئيس الدّولة لمدّة أقصاها تسعون (90) يوما، تنظّم خلالها انتخابات رئاسيّة.
في حالة عدم ممارسة المجلس الدستوري لصلاحياته الدستورية، سواء في الفرضية الأولى، أي اغتصاب منصب رئاسة الجمهورية، أو في الفرضية الثانية، وجود شغور فعلي في منصب رئيس الجمهورية، فإنه يقع على عاتق مؤسّسة الجيش الوطني الشعبي التدخل لمنع اغتصاب السلطة حماية للجمهوريّة والقواعد الدستوريّة، وتفعيلا للمؤسّسات الدستوريّة التي اختارها الشعب. فلما يتدخل الجيش لحماية الشعب ومؤسّساته الجمهوريّة يكون قد حمى السيادة الوطنيّة، التي هي ملك للشعب، والتي يمارسها عن طريق مؤسّساته، مثلما جاء في نص المادتين 7 و 8 من الدستور. غير أن تدخل الجيش هنا يقتضي أن يكون في حدود صلاحياته الدستوريّة، من خلال الحث على تفعيل المؤسّسات الدستوريّة القائمة، وهي المجلس الدستوري والبرلمان اللذين عليهما الاضطلاع بمهامهما المرتبطة بإثبات شغور رئاسة الجمهوريّة، وتولي مهام رئاسة الدولة قصد التحضير للانتخابات الرئاسية، مثلما تنص عليه المادة 102 من الدستور.
نخلص بالقول، بناء على ما سبق، أنه إذا توفرت هناك إرادة سياسيّة صادقة من قبل السلطة للاستجابة للإرادة الشعبية، وفي نفس الوقت الالتزام بالمشروعيّة الدستوريّة، فإن الحل الدستوري الأمثل هو اللجوء إلى استفتاء الشعب قصد انتخاب مجلس رئاسي انتقالي قبل 28 أفريل 2019، والذي يتشكل من شخصيات وطنية تتمتع بنزاهة ومصداقية لدى الشعب، ويفوض له مهام وصلاحيات رئيس الدولة بالنيابة قصد إدارة المرحلة الانتقالية، وبعده كل الحلول الأخرى الناتجة عن ذلك ممكنة. خارج هذا الحل، كل الحلول الدستوريّة الأخرى الممكنة في هذه الفترة ستؤدي إلى نسف مطلب تغيير النظام، سواء في إطار الخريطة التي جاء بها رئيس الجمهورية، أو بناء على المطالب الشعبية المرفوعة خلال المسيرات السلميّة.
في الأخير نؤكدأن الدستور، باعتباره القانون الأساسي للجمهوريّة الجزائريّة، يبقى فوق الجميع واحترامه لفظا وروحا، حتى في الظروف الصعبة، شرط جوهري من أجل بناء ديمقراطية صالحة ومستدامة أساسها دولة القانون، والمساس به لأي ظرف كان، ومهما كانت نقائصه، دون الرجوع إلى الإرادة الشعبية أو عبر القنوات القانونية المقرّرة في أحكامه، يمس بمشروعية المؤسّسات وممارسة السلطات، كما يشكل سلوكا سياسيا محفوفا بالمخاطر ويكرس انطلاقة خاطئة لبناء جمهوريّة ديمقراطيّة حقيقية.
ويبقى الشعب، مثلما جاء في الفقرة الأخيرة من ديباجة الدستور الجزائري، أحسن ضمان لاحترام مبادئ هذا الدستور، وذلك من خلال تضحياته وإحساسه بالمسؤوليّات وتمسكه العريق بالحريّة والعدالة الاجتماعيّة.